يـــاســــــــــر رزق يكتب: «يوليو» المفتـرى عليها.. و«يونيو» التى يكيدون لها

الكاتب الصحفى / ياسر رزق
الكاتب الصحفى / ياسر رزق


فى 23 يوليو.. نزل الجيش من أجل الشعب، فأيدته الجماهير.


فى 25 يناير.. نزل الشباب من أجل التغيير، واستجاب لهم الجيش.


فى 30 يونيو.. نزل الشعب من أجل الوطن، وسانده الجيش.


 


الثورات الثلاث كان لها نفس الأهداف الثلاثة الرئيسية: «العيش.. الحرية.. العدالة الاجتماعية».


تلك المطالب هى الغاية من ثورات الشعوب فى كل مكان.


قد يختلف الترتيب. أحيانا تسبق «الحرية»، «العيش» بعض الثورات، لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.


وغالباً يأتى «العيش» فى الصدارة، لأنه بدون الخبز لا يستطيع الإنسان أن يحيا.


لولا تأييد الشعب للجيش فى يوليو، لتحولت «حركة الضباط المباركة» إلى تمرد عسكرى، كان يسهل للملك والإنجليز سحقه سحقاً.


ولولا استجابة الجيش فى يناير لمطالب الشعب الذى ناب عنه الشباب فى الجهر بها، ما تغير نظام مبارك، حتى لو تغير شخص مبارك.


ولولا خروج الشعب فى يونيو ما تحرك الجيش. ولولا مساندة الجيش لثورة الشعب، لسالت دماء المصريين أنهاراً فى حرب أهلية بين الجماهير العزل وميليشيات الإخوان.


• < <


65 عاماً مضت على الثورة الأم.


إذا ذُكرت كلمة «23 يوليو»، لابد أن ترتسم فى الذهن صورة جمال عبدالناصر.


عبدالناصر هو روح ثورة يوليو وعقلها.


لولا هذا الرجل، لظل 23 يوليو انقلاباً عسكرياً، يطيح بملك فاسد ويبقى على نظام سياسى أشد فساداً. لولاه ما صار 23 يوليو ثورة حقيقية غيرت وجه الحياة على أرض مصر، وامتدت بفيضها إلى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.


لولا عبدالناصر ما جرى هذا التغيير الاجتماعى الهائل فى سنوات الخمسينيات والستينيات، الذى أنصف الفقراء، وعلّم أبناء العمال والفلاحين، وخلع أنياب الرأسمالية المتوحشة.


ذلك أن رفاق عبدالناصر من أعضاء مجلس قيادة الثورة، كانوا من مشارب سياسية متباينة واتجاهات فكرية متعارضة وطبقات اجتماعية مختلفة. فمنهم يمينيون وشيوعيون وإخوان ومحافظون، ومنهم من ينتمى للطبقة دون المتوسطة ومن ينتمى لأسر من كبار ملاك الأراضى.


كانت تجمعهم الروح الوطنية، وتفرق بينهم المواقف السياسية والانحيازات الطبقية.


< < <


مثل هذه الأيام فى كل عام، هى موسم فتح النار على ثورة يوليو وأيامها، وعلى قائدها «الدكتاتور المهزوم»، وموسم اجترار «مناقب» العهد الملكى، ومآسر الأسرة العلوية وبخاصة المليك فاروق الأول!


أغراض حملات الهجوم الشرس واضحة لكل ذى بصيرة:


- أما مسح ذاكرة المصريين، عبر اختلاق تاريخ مغاير لوقائع التاريخ، بهدف تشكيل ذهنية للأجيال الجديدة تخاصم ماضى بلادهم المجيد.


ووراء هذا جرحى ثورة يوليو من سلالات قدامى الاقطاعيين والسياسيين، وكذلك غير الجرحى من أنسباء وشهود زواج المال بالسلطة الذين ظهروا فى  عهد السادات، وشبوا وترعرعوا وعربدوا وتوحشوا فى سنوات مبارك الثلاثين.


- وإما الطعن فى العسكرية المصرية حقداً على الجيش المصرى الذى قاد ثورة يوليو، واستجاب لمطالب ثورة يناير، وساند ثورة يونيو دونما مواربة أو تردد.


ووراء ذلك الإخوان وحلفاؤهم، الذين فشلوا فى القفز على ثورة 23 يوليو أو تطويعها، ونجحوا فى السطو على ثورة 25 يناير ونتائجها، واستطاع الشعب ومعه الجيش فى استعادة الثورة السليبة من براثنهم فى ثورة 30 يونيو، واسترجاع  الدولة المختطفة من أسرها فى بيان 3 يوليو وما بعده.


< < <


الكيد لثورة 23 يوليو هذه الأيام، هو كيد من وراء أستار لثورة 30 يونيو.


يراد لنا أن نصدق مزاعمهم عن ثورة يوليو وننسى الحقائق، والقصد تطويع الذاكرة الوطنية، ليسهل عليهم أن ينسونا حقائق ثورة يونيو، فنصدق يوماً أكاذيبهم عن 30 يونيو، ما قبلها وما بعدها.


دعونا إذن نسترجع بعض وقائع ونستعيد حقائق أحوال لنعرف أين كنا قبل ثورة يوليو وكيف أصبحنا بعدها، علنا نستفيد ونحصن ثورة يونيو من محاولات أولئك الذين يرغبون فى احتوائها، ويتوقون لإجهاض مكتسباتها، ويتصورون أن بإمكانهم مسح ذاكرة أمة وشعب عن أمسها القريب.


بدعوى «النوستالچيا» أو الحنين إلى الماضى، تذاع أعمال درامية، وتدبج مقالات، وتبث أفلام تسجيلية مجتزأة، وتشن على مواقع التواصل حملات ممنهجة، الهدف منها تغييب وعى الناس وبناء وعى جديد زائف، لنصدق أن مصر فى العهد الملكى كانت جنة الله على الأرض، لنكفر بالنظام الجمهورى الذى أقامه الجيش بعد عام من ثورة يوليو، وكل ما جرى على أرض مصر طيلة 65 عاماً، وما يجرى الآن.


يراد لنا أن نصدق أن مصر الملكية كانت بلداً عزيزاً سيد قراره، وننسى أنها كانت تحت الاحتلال البريطانى، وأن المستعمر لم يحمل عصاه ويرحل إلا بفضل اتفاقية الجلاء التى أبرمتها الثورة بعد عامين من قيامها، ليغادر ترابنا آخر جندى بريطانى فى 18 يونيو 1956.


يراد لنا أن نصدق أن فاروق وأسلافه كانوا هم رواد الحركة الوطنية المصرية، وأن عرابى كان زعيم «هوجة فلاحين»، ومصطفى كامل كان ظلاً للخديو عباس حلمى، وأن سعد زغلول كان مقامراً، ومصطفى النحاس كان مجرد رجل «هلهلى» لا يفقه فى السياسة شأنا ولا شيئاً.


يراد أن ننسى أن جمال عبدالناصر هو أول حاكم مصرى صميم منذ عهد الفراعنة، وهذا ليس فيه غبن لمحمد نجيب، فقد كان نصف مصرى.


يراد لنا أن نصدق أن مدن مصر فى العهد الملكى كان تضاهى عواصم أوروبا، وأن الفلاح كان يعيش حياة ما أحلاها، والعامل ينعم بمزايا ما أروعها، وأن المصريين كانوا يحشون أرغفة الخبز بأرطال اللحم المشوى، يغمسونها فى السمن البلدى ويأكلون، وأن على أرض مصر لم يكن أحد يبيت بدون عشاء، أما الحياة السياسية فكانت نموذجاً للديمقراطية وتداول السلطة وحكم الشعب!


يريدون منا أن نصدق أن الإصلاح الزراعى كان وبالاً، وتأميم القناة كان حماقة، وبناء السد العالى كان خراباً، والتصنيع الثقيل كان سراباً، والانتاج الحربى كان خرافة!


< < <


زيارة قصيرة للتاريخ، ونظرة سريعة على الماضى القريب، تدحض تلك المزاعم عن العهد الملكى، وتفند تلك الأكاذيب عن إنجازات يوليو ومكتسباتها.


حتى نهاية العصر الملكى، كانت مدن مصر ومعظم أحياء العاصمة لا تعرف كوب الماء النظيف ولا تسمع عن الصرف الصحى وغالبيتها لم تدخلها الكهرباء.


كان العيد له مذاق مختلف عن أيام ما بعد الثورة، وكذلك شهر رمضان، لسبب وحيد هو أن الشوارع المظلمة كانت تضاء فى هذه الأيام المباركة بالفوانيس، وكان أطفال عموم المصريين لا يأكلون الحلوى إلا عيدية أو «عادة رمضانية»، وكانت رائحة اللحم لا تعرفها معظم البيوت إلا زكاة أضحية فى عيد الأضحى.


كانت السلع رخيصة الثمن، لكن دخول الأسر المصرية كانت تحسب بقروش وملاليم، تعجز عن الوفاء بتلك الاثمان الزهيدة.


كان «المش» هو وجبة الفلاح الأساسية، وكان «دوده» هو بروتينه، وكان عشاؤه قطرات من العسل الأسود. كان مرض «البلاجرا» ينهش أجساد أبناء القرى الذين لا يجدون حفنات قمح يطحنونها خبزاً.


كانت أقراص الطعمية حكراً على أبناء البنادر يحسدهم على مذاقها الشهى سكان الريف.


كان العمال أشبه بالعبيد، يعملون فى ظروف بائسة، فلا حد أدنى للأجور ولا ساعات محددة للعمل، لا علاج ولا تأمينات ولا ضمانات.


المشروع القومى لمصر فى عهد المليك المفدى فاروق الأول ملك مصر والسودان (المحتلين من بريطانيا)، كان «مقاومة الحفاء»!


شريحة كبرى من أبناء الشعب لم تكن تملك ثمن «مداس» لا «حذاء»!.. وكان من يتبرع لمشروع الملك بعشرة آلاف جنيه، يمنح رتبة الباشوية، ولم يعرف أحد أين ذهبت تلك التبرعات، وسخر المصريون من هذا المشروع الوهمى ومن الراغبين فى هذه الرتبة العالية، فأسموهم «باشوات الجزم»!


كانت مصر هى مجتمع النصف فى المائة.


½% فقط من المصريين ينعمون وحدهم بخيرات البلد، وغالبية الناس لا تجد الفتات ولا مكان لها تحت شمس الوطن.


أما عن الحياة الديمقراطية قبل ثورة يوليو فكانت أضحوكة.


صحيح أن الديمقراطية بمفهوم تعدد الأحزاب غابت بعد ثورة يوليو. وصحيح أن العهد الناصرى لم يكن عصر ازدهار للحريات، وأن عبارة تداول السلطة لم تكن فى قاموس هذا العهد.


لكن الصحيح أيضاً أن حكم الشعب تحقق بعد ثورة يوليو بالقبول والتفويض.. بينما لم تنعم الفترة الليبرالية (1923-1952) بحكم الشعب إلا سنوات معدودة.


كان حزب الوفد هو حزب الأغلبية الشعبية، وبرغم ذلك لم يحكم طيلة عمر هذه الفترة التى تقارب ثلاثين عاماً، إلا 4 سنوات وبضعة شهور، منها عامان برغبة المستعمر البريطانى وتحت أسنة الحراب البريطانية من عام 1942 إلى عام 1944، ولم يكن ذلك نفاذا لإرادة الشعب رغم أنف الملك، وإنما لظروف الحرب العالمية الثانية التى استوجبت لمصلحة المستعمر تهدئة الجبهة الداخلية المصرية فى ظل توغل الماريشال الألمانى روميل بقواته داخل الأراضى المصرية.


فى معظم سنوات ما يسمى بـ»الفترة الليبرالية» كانت أحزاب الأقلية المدعومة من القصر الملكى والأحزاب الكرتونية المهادنة للاحتلال تحكم البلاد، إما بأمر من فاروق الأول، أو عبر انتخابات مزورة تزويراً فاحشاً.


< < <


لم يكن الإصلاح الزراعى من بنات أفكار عبدالناصر، ولا التعليم المجانى والعلاج المجانى، ولا السد العالى.


لكنه هو الذى حقق تلك الأحلام فى سنوات الثورة المجيدة.


بعد 48 يوماً فقط من قيام الثورة، أصبح الفلاح الأجير وعامل التراحيل، لأول مرة مالكا للأرض فى أقدم دولة اقطاعية فى التاريخ.


صارت للعامل حقوق فى الأجر والمزايا، وأصبح من حقه المشاركة فى الإدارة والأرباح فى الشركات التى تملكها بلاده.


دخلت الكهرباء الريف بفضل السد العالى، الذى أنقذ مصر على مدى قرابة 6 عقود، من سنوات عجاف وراء سنوات عالية الفيضان.


تعلم أولاد الفقراء، وارتقت الأسر البسيطة السلم الاجتماعى عبر أبنائها خريجى الجامعات، وأصبح منهم الوزراء ورؤساء الحكومات والبرلمانات.


تغيرت تركيبة المجتمع المصرى وتغير وجه الحياة على أرض مصر بقلاع صناعية ضخمة كمجمعات الحديد والصلب بحلوان والألومنيوم بنجع حمادى و»كيما» بأسوان وغيرها الكثير، وازدهرت الصناعة فى أقدم بلد زراعى، وحققت خطة التنمية الخمسية الأولى (1962-1967) أعلى معدل نمو فى دول العالم الثالث.


أما عن التصنيع الحربى، فقد أنشئت قلاع صناعية لإنتاج السلاح، ودخلت مصر عصر تصنيع الطائرات المقاتلة بمشروعى «القاهرة-200»، و»القاهرة -300»، والصواريخ «القاهر» و»الظافر» اللذين استخدما فى حرب أكتوبر.


أما أعظم إنجاز لثورة يوليو -فى رأيى المتواضع- فهو تأميم قناة السويس، التى حفرها المصريون بأظفارهم ومعاولهم سخرة فى عهد الخديو سعيد ثم الخديو إسماعيل جد الملك فاروق، ومات فى سنوات الحفر العشر 120 ألف مصري وهم يعملون فيها فى أسوأ أوضاع.


ثم أهداها الخديو إسماعيل بسوء إدارته إلى الإنجليز والفرنسيين.


كانت للشركة العالمية لقناة السويس حق امتياز إدارة القناة والحصول على إيراداتها لمدة 99 عاماً تنتهى فى عام 1968، وكان الامتياز قابلا للمد 99 عاماً أخرى إلى ما شاءت إرادة المستعمر وأعوانه.


أمم عبدالناصر القناة يوم 26 يوليو 1956، قبل 12 عاماً من انتهاء الامتياز.


البعض يصور القرار على أنه فورة غضب من رفض البنك الدولى بايعاز أمريكى تمويل بناء السد العالى.


والبعض يعتبره دليل حماقة، فقد كان يمكن -فى رأيهم- الانتظار 12 عاماً، وتجنب التعرض للعدوان الثلاثى الذى جاء كرد انتقامى على قرار التأميم.


أى منصف يجهد نفسه بعض الشىء فى قراءة التاريخ ومطالعة الوثائق، يدرك أن قرار التأميم كان يستحوذ على تفكير عبدالناصر من قبل قرار البنك الدولى بسنوات، فقد كان يعتبر استعادة القناة جزءاً من التحرر من الاستعمار.


وأى وطنى ذى نخوة لابد أن يجد فى منطلقات أصحاب مذهب الصبر 12 عاماً، أمراً يخدش كرامة المصريين وعزة الوطن. فهى لا تختلف كثيراً من ذلك الذى لا يجد غضاضة فى أن يترك عزيزاً لديه فى أسر صاحب نفوذ، ولا يهب لنجدته وتخليصه، ما دام المتنفذ سوف يطلق سراح العزيز بعد سنوات معلومة!


هذا القرار كما أراه هو أهم مكتسبات ثورة يوليو، وهو الذى جعل الثورة المصرية مصدر إلهام لحركات التحرر فى العالم الثالث بأسره.


< < <


ماذا يتبقى من الثورة الأم فى عيدها الخامس والستين؟


يتبقى منها الأمل، والمدد والدرس، والعبرة من الأخطاء والخطايا، وتجنبها ونحن نمضى فى مشروعنا الوطنى لبناء الدولة المصرية الحديثة الثالثة بعد دولة محمد على ودولة عبدالناصر الذى نحتفل فى مطلع العام القادم بمئوية ميلاده.


على أن أعظم الدروس التى نأخذها من ثوراتنا الثلاث، 23 يوليو و25 يناير و30 يونيو، هو تلك العلاقة الفريدة بين هذا الشعب وجيشه، فلولاها ما نجحت هذه الثورات المجيدة، ولكان التاريخ غير التاريخ ولولاها لصار المستقبل رهناً بتقلبات المجهول!